مؤتمر أكراد سوريا- سوريا لا مركزية وحقوق ثقافية في مهب الريح؟

المؤلف: د. سعيد الحاج09.06.2025
مؤتمر أكراد سوريا- سوريا لا مركزية وحقوق ثقافية في مهب الريح؟

دعا مؤتمر عُقد لأكراد سوريا إلى إقامة دولة سورية ديمقراطية لامركزية، يكفل للأكراد حقوقهم السياسية والثقافية بشكل كامل، وذلك ضمن رؤية مستقبلية لسوريا موحدة في إطار اتحادي أو فدرالي. هذا الإعلان أثار رد فعل من الرئاسة السورية، ومن المتوقع أن يستدعي اهتمامًا كبيرًا من الجانب التركي، الذي يعتبره تراجعًا عن التفاهمات السابقة بين الإدارة السورية و قوات سوريا الديمقراطية.

السياق

لقد كان أكراد سوريا في طليعة الجهات المستفيدة من التطورات الدراماتيكية التي أعقبت الثورة السورية، خاصةً مع تضاؤل قوة وقدرات الحكومة المركزية. في مطلع عام 2014، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي عن تأسيس إدارة ذاتية في ثلاث مقاطعات في شمال سوريا، مما أثار الحديث مجددًا عن إمكانية قيام كيان أو "دُويلة" كردية.

من جهتها، كانت تركيا في مقدمة الدول الرافضة لهذه الخطوة، خشيةً من تأثيرها السلبي على وضع الأكراد داخل حدودها، حيث تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه أنقرة كمنظمة إرهابية تسعى للانفصال. وقد أدى ذلك بالفعل إلى تراجع حزب العمال الكردستاني عن المسار السياسي الداخلي، واستئناف الهجمات المسلحة، وإعلان إدارات ذاتية في مناطق جنوب وجنوب شرقي تركيا.

قامت أنقرة بتنفيذ عدة عمليات عسكرية حاسمة بهدف منع إنشاء أي كيان سياسي على حدودها الجنوبية، خشيةً من ارتباطه بحزب العمال الكردستاني. وظل الدعم الأمريكي المستمر للميليشيات الكردية نقطة خلافية رئيسية بين أنقرة وواشنطن، ولم يقلل من حدة هذا الخلاف سعي الولايات المتحدة إلى تحويل وحدات حماية الشعب - الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي - إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" عن طريق ضم عناصر إضافية إليها. وعلى الرغم من ذلك، ظلت أنقرة تلوّح بعملية عسكرية أخرى ضد "قسد" ما لم تتخلَّ الأخيرة عن مشاريعها الانفصالية ذات الطابع الإقليمي.

ومع إطلاق عملية "ردع العدوان"، وتزايد رصد التحركات المشبوهة لقسد، تحرّكت الفصائل المنضوية تحت لواء الجيش الوطني السوري، المدعوم من تركيا، ضد قوات قسد.

ومع تدهور الأوضاع، تحوّلت مناطق شرق الفرات، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، إلى مصدر قلق بالغ لكل من دمشق وأنقرة، حيث يعتبرها الطرفان تهديدًا محتملاً لوحدة الأراضي السورية، خاصةً بعد التصريحات الصادرة عن كل من الحكومة "الإسرائيلية" وقيادات في قسد حول إمكانية التعاون بينهما، ولا سيما ضد تركيا.

جددت أنقرة تهديداتها بشن عملية عسكرية جديدة ضد قسد، لكنها في الوقت نفسه أبدت ترحيبها بأي مساعٍ داخلية سورية-سورية تهدف إلى منع سيناريوهات التقسيم. ولذلك، عبّرت عن ارتياحها النسبي للاتفاق الذي تم توقيعه بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي في شهر مارس الماضي، خاصةً بعد نداء عبدالله أوجلان بحل حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح. ومع ذلك، ظل ترحيب أنقرة حذرًا ومصحوبًا بتأكيد متابعتها الدقيقة للتنفيذ الفعلي للاتفاق، وإبقائها على جميع الخيارات مفتوحة.

المؤتمر

في يوم السبت الماضي، قامت قوى وأحزاب كردية سورية بتنظيم مؤتمر للحوار الوطني الكردي في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، تحت عنوان "مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي". وقد شارك في هذا المؤتمر أكثر من 400 شخصية سياسية بارزة، من بينهم ممثلو الأحزاب الكردية، وفي مقدمتهم حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي. كما حضر المؤتمر قياديون في أحزاب كردية من كل من العراق وتركيا، بالإضافة إلى ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.

يهدف هذا المؤتمر، الذي يسعى إلى بلورة موقف موحد للقوى الكردية السورية، إلى تتويج سنوات طويلة من المفاوضات المكثفة بين التيارين الرئيسيين في المشهد السياسي الكردي السوري، وهما: حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، وذلك بوساطة مباشرة من القيادي الكردي العراقي المخضرم مسعود البارزاني، وبرعاية مشتركة من فرنسا والولايات المتحدة.

وقد جاء توقيت انعقاد المؤتمر لافتًا للنظر، حيث عُقد بعد الاتفاق المذكور بين الشرع وعبدي، والذي نص على دمج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسّسات الدولة السورية، والتأكيد على وحدة الأراضي السوريّة، ورفض التقسيم، وتضمن تحديد مدة زمنية للتنفيذ حتى نهاية العام. وقد سبق ذلك مواقف لقوات سوريا الديمقراطية انتقدت الإعلان الدستوري وتشكيلة الحكومة الأخيرة، معتبرةً أنها لا تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري.

وفي ختام أعمال المؤتمر، تم الإعلان عن وثيقة سياسية تأسيسية تتألف من 26 بندًا موزعة بالتساوي على محورين رئيسيين: المجال الوطني السوري، والمجال القومي الكردي، وذلك باعتبارها منطلقًا أساسيًا للحوار البناء "مع جميع الأطراف"، الكردية منها والإدارة السورية على حد سواء. وقد دعت الوثيقة إلى ضمان الحقوق السياسية والثقافية للأكراد في إطار رؤيتها لسوريا كدولة ديمقراطية لامركزية.

وفي تعقيبها الرسمي على مخرجات المؤتمر، أصدرت الرئاسة السورية بيانًا دعت فيه قوات سوريا الديمقراطية إلى الالتزام الصادق بالاتفاق المبرم مع الإدارة السورية، وانتقدت ما وصفته بتكريس واقع فدرالي أو إدارة ذاتية بشكل منفرد دون توافق وطني شامل، وحذّرت من وجود توجهات خطيرة نحو إحداث تغيير ديموغرافي في بعض المناطق، مؤكدةً على أن "وحدة سوريا أرضًا وشعبًا هي خط أحمر لا يمكن تجاوزه"، وأن أي تجاوز لهذا الخط يُعدُّ "خروجًا صريحًا عن الصف الوطني، ومساسًا جوهريًا بالهوية الجامعة لسوريا".

مؤشرات مقلقة

يؤكد بيان الرئاسة السورية بوضوح أن الحكومة السورية تنظر إلى مخرجات المؤتمر بعين الريبة، وترى فيها نكوصًا واضحًا عن اتفاق مارس بين الشرع وعبدي، خاصةً وأنها تتزامن مع تعثّر ملحوظ في تطبيق الاتفاق الخاص بسد تشرين.

لقد شكّل المؤتمر في بعض تفاصيله الدقيقة ومخرجاته النهائية مصدر قلق حقيقي لدمشق، وهو قلق تشاركها فيه أنقرة بشكل كبير. ففي المقام الأول، لم يكن المؤتمر "كرديًا سوريًا" خالصًا، بل كان البعد الكردي الإقليمي حاضرًا بقوة في الحضور والكلمات الرئيسية، وتحديدًا مشاركة وفد رفيع المستوى من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وممثل شخصي عن مسعود البارزاني من العراق، وحزب ديمقراطية ومساواة الشعوب من تركيا. كما أن مشاركة ممثلين عن كل من واشنطن وباريس والتحالف الدولي منحت المؤتمر بعدًا دوليًا واسعًا لا تفضّله دمشق على الإطلاق.

ولم تتوقف الرمزيات عند هذا الحد، بل تم وضع العلم السوري إلى جانب عدة أعلام أخرى على منصة المؤتمر، مما يطعن من وجهة نظر دمشق في "سوريّة" المؤتمر، والتزامه بالسقف الوطني المحلي، فضلًا عن الإشارة في مخرجات المؤتمر إلى الإدارة السياسية كأحد الأطراف التي سيتم التوجه إليها للحوار بشأن الوثيقة السياسية التأسيسية.

وفيما يتعلق بالمضمون، هناك ثلاث نقاط رئيسية تثير قلق دمشق بشكل خاص:

  • أولًا: الدعوة الضمنية إلى تبني نظام الفدرالية (أو الإدارة الذاتية؟)، على الرغم من الحديث المتكرر على لسان العديد من المتحدثين وفي الوثيقة نفسها عن وحدة سوريا. حيث ينص البند الرابع من المحور الأول (الوطني السوري) على إقامة "سوريا لا مركزية" تتضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة "بين المركز والأطراف".

كما أن البند الأول من المحور الثاني (القومي الكردي) يدعو صراحةً إلى "توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية". وهي بنود ترى دمشق أنها تتعارض بشكل جوهري مع وحدة سوريا أرضًا وشعبًا ونظامًا سياسيًا.

  • أما النقطة الثانية، فهي السعي الحثيث لإقحام أطراف خارجية في ملفات داخلية حساسة، مثل الدعوة إلى "تشكيل هيئة دستورية برعاية دولية" تضم ممثلي كافة المكونات السورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية من كافة ألوان الطيف السوري "بصلاحيات تنفيذية كاملة"، وهو ما لا يكتفي بنسف الإعلان الدستوري الذي أعلنته الإدارة السورية فحسب، بل يدعو أيضًا إلى دور خارجي "يرعى" هذا المسار.
  • وأما النقطة الثالثة فهي الدعوة إلى تبني نظام حكم برلماني، وهو ما يتعارض بشكل واضح مع توجهات الإدارة السورية الانتقالية، وإن كان هذا البند يعتبر أقل إزعاجًا من البنود الأخرى المتعلقة بالنظام السياسي، ومكانة المكوّن الكردي فيه.

هذه النقاط تثير قلق تركيا أيضًا، أولًا من حيث أنها تمثل تراجعًا عن اتفاق قسد مع الإدارة السورية، وثانيًا لأنها بهذا المعنى تعيد إحياء المخاوف القديمة بشأن الفدرالية والإدارات الذاتية وسيناريوهات التقسيم، وثالثًا بسبب ما تردد عن دعوات لإنهاء الوجود التركي العسكري في سوريا، وإلغاء اتفاق أضنة، وغير ذلك من الأمور التي تهم أنقرة بشكل مباشر، وإن لم يتم النص على ذلك صراحةً في الوثيقة فيما تم نشره.

لم يصدر حتى الآن أي تعقيب رسمي مباشر من أنقرة على المؤتمر، لكن من المتوقع أن يكون موقفها العام متحفظًا وحذرًا من أي مسارات انفصالية أو مشاريع فدرالية وإدارات ذاتية، وأي نكوص عن اتفاق مارس الماضي، وخاصةً في جزئية دمج قوات قسد في المؤسسة العسكرية الرسمية.

وبالتالي، من المرجح أن يعود الخطاب الرسمي التركي إلى التلويح بالتدخل المباشر في حال تراجعت قيادة قسد عن الاتفاق ورفضت حل نفسها و/أو الاندماج في الجيش السوري، وهو ما يعني عودة الخيار العسكري إلى قائمة الخيارات المطروحة أمام أنقرة، إما بشكل منفرد أو – وهو السيناريو الأرجح – بالتعاون الوثيق مع دمشق.

لا شك أن اتخاذ قرار بشأن شن عملية عسكرية جديدة لن يكون أمرًا سهلًا على الإطلاق في ظل الظروف الراهنة والتطورات الأخيرة المتسارعة، لكن تركيا ترى أنها تقف الآن أمام فرصة تاريخية نادرة لا ينبغي التفريط فيها، وإلا فإن ذلك قد يؤدي إلى تثبيت حقائق على الأرض يمكن أن تضر بمصالحها على المدى البعيد. كما أنها تنظر إلى قرار سحب بعض القوات الأمريكية المحدودة من سوريا كعنصر ضغط إضافي على قسد، وهو ما سيصب في نهاية المطاف في مصلحة أنقرة ودمشق على حد سواء.

وهو الأمر الذي تدركه قسد تمام الإدراك، ولذلك فقد كان من اللافت للنظر تأكيد أكثر من قيادي كردي لوسائل الإعلام المختلفة على أن الوثيقة السياسية الصادرة عن المؤتمر هي مجرد منطلق (وليست نهاية المطاف) للحوار البناء مع دمشق، وأن هناك مرونة عالية ورغبة حقيقية في التوصل إلى اتفاق شامل مع الحكومة السورية.

وحتى يحين ذلك الوقت، ستطالب أنقرة الإدارة السورية بالتعامل بحزم وحسم مع هذا الملف الحساس، وستعرض بالتأكيد دعمها الكامل وإمكانية تقديم المساعدة اللازمة في أي مسار تنتهجه دمشق إزاءه. وهو ما يعني أن القرارات النهائية لكل من أنقرة ودمشق ستتبلور بصورة أوضح بعد الحوار المرتقب الذي سيجرى بين الإدارة السورية والقوى الكردية بشأن الوثيقة السياسية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة